نظرة في حدود القوة والفعل لكل من إسرائيل، السلطة الفلسطينية والشارع الفلسطيني من خلال النظر في عملية البحث عن المستوطنين الثلاثة
تسعة عشر يوماً مدة العملية الأمنية التي عنونت إسرائيلياً بـ"عودة الإخوة" في إشارة إلى المستوطنين الإسرائيليين المخطوفين على الطريق بين بيت لحم والخليل حيث يقع تجمع مستعمرات غوش عصيون. تسعة عشر يوما هي مدة العملية التى رأى ولمس فيها المواطنون الفلسطنيون ممارسات عسكرية مباشرة للاحتلال الإسرائيلي كانت تستهدفهم بناء على هويتهم القومية كعرب فلسطينيين وليس على أساس ضلوعهم بنشاط مباشر أو غير مباشر ضد سلطة الاحتلال ومستوطنيه. إن ما تمسيه إسرائيل إجراءات بحث ضمن الاسم الرسمي للعملية “عودة الإخوة”، هي إجراءات عقاب جماعي جزء منها محرم حسب القانون الدولي الإنساني مثل تحديد حركة ٨٠٠ ألف فلسطيني وقتل سبعة مدنيين فلسطينيين عزل دون دواعٍ أمنية. تهدف هذه المقالة إلى النظر في العملية العسكرية وتداعياتها السياسية على الأرض من وجهة نظر مراقب فلسطيني متأثر في العملية وله مصلحة ملحة في إنهاء الاحتلال.
تداعيات العملية اسرائيلياً
العملية التي استمرت ١٩ يوم كان ممكن أن تكون محدودة من الناحية العملياتية’ فبعد يومين من الاختطاف كان لدى أجهزة أمن إسرائيل تقديرات حول العملية، منطقة تنفيذها ومصير المستوطنين. ذلك بناء على شريط تسجيل المكالمة التي جرت بين المختطفين والشرطة الإسرائيلية الذي تخلله إطلاق رصاص. كما أن تحليل الذبذبات للأصوات المسجلة قد يكون أحد الأدلة على هوية المنفذين. إضافة إلى الإشارات الصادرة عن أجهزة هاتف المختطفين التي رصدت مكان وجودهم المحتمل اعتمادا على نظام التموضع العالمي (GPS). كما أن المعلومات والرصد الحثيث التي نفذتها أجهزة أمن السلطة الفلسطينية كان له الأثر في تحديد موقع إحدى السيارات وهوية سارقي السيارة الذين سلموها للخاطفين. ما يؤكد ذلك المداهمات المركزة في منطقة الحسكة في بلدة حلحول حيث تم العثور على جثث المستوطنين إضافة إلى التسريبات لبعض تصريحات رجال الأمن الإسرائيليين والفلسطينيين.
لكن إسرائيل قامت بعملية واسعة من حيث المساحة الجغرافية التي شملت منطقة الخليل وجبالها ومتنوعة من حيث استخدام وحدات وأساليب عسكرية وأمنية. حيث إن العملية الأمنية - العسكرية أخذت عدة أبعاد؛ أهمها:
١- البعد الأمني- العسكري حيث كان فيه البحث عن المخطوفين أحد اعتباراته ولكن ليست الأساسية. إذ يمكن النظر إلى استقدام آلاف الجنود الإسرائيليين المشاة للعمل على الأرض على أنه عملية تدريبية واسعة بهدف إعطاء وحدات المشاة تجربة مباشرة في العمل في ديموغرافيا الضفة من جهة والتعود على تضاريسها التي تشبه تضاريس بعض الدول المجاورة مثل لبنان وسوريا من جهة أخرى.
٢- البعد النفسي الردعي الذي يهدف إلى إقامة وفرض هيبة للجيش الإسرائيلي ومؤسسات الاحتلال من خلفه في نفوس سكان القرى و البلدات الفلسطينية التي شملتها عملية الانتشار على الأرض. حيث إن توطين الهيبة في نفوس الفلسطينيين قد يكون له أثر بعيد المدى يمنع ويردع المقاومين المحتملين من شن عمليات في المستقبل، وفي أسوأ الأحوال إضعاف الحاضنة الجماهيرية للمقاومين الفلسطينيين.
٣- إخراج علاقات التعاون التي تربط سلطة الحكم الإداري الذاتي الفلسطيني وحكومة الاحتلال إسرائيل إلى العلن. حيث إن الهدف من ذلك ليس إحراج السلطة - فإن ذلك تحصيل حاصل لا ينبغي التوقف عنده- وإنما أن يتقبل الجمهور الفلسطيني هذه العلاقات كجزء من المشهد الطبيعي للعلاقة بينهما من جهة. من الجهة الأخرى هي محاولة لتعميم نمط هذه العلاقة بين المجتمعين المتجاورين والمنفصلين، العربي الفلسطيني واليهودي الإسرائيلي. هذه العلاقة المهيكلة بين مؤسسة الدولة الكولونيالية- المحتلة، إسرائيل، ومفوض الإدارة الذاتية للفلسطينيين تحت الاحتلال، السلطة الفلسطينية، ضمن معادلة: تنسيق أمني مقابل خدمات مدنية. أما في الإطار العام فالعلاقة بين المجتمعين التي يجري العمل على تطبيعها، معادلتها: فرص عمل مقابل تقبل للأمر الواقع، أي الإقرار بشرعية وجود وبقاء إسرائيل.
٤- العملية الأمنية العسكرية جزء من الاستعراض الاستهلاكي الداخلي للسياسة الإسرائيلية. فالحكومة الإسرائيلية لا تريد أن تظهر أنها تقاعست عن الرد وأخذ زمام المبادرة. فيما أجهزة الدولة التي رسمت لنفسها صورة المحارب الشرس لا تستطيع أن تدير عملياتها بدون عقلية وأدوات القبضة الحديدية.
٥- حشد داخلي وتعبئة للمجتمع الإسرائيلي يسير فيه نحو مزيد من اليمينية الفاشية. فذلك يضمن حصة أكبر لأحزاب اليمين في أي انتخابات إسرائيلية قادمة. كما يزيد من ترابط المجتمع الإسرائيلي الذي لديه ميل عضوي نحو الشعور بالاستهداف ومشاعر الضحية التي تدافع عن نفسها.
الإطار الذي تعمل فيه السياسات والإجراءات الإسرائيلية ولا أقول الإستراتيجية الإسرائيلية هي التعامل مع الموقف والمستجدات مع بقاء الوضع القائم. أي مزيداُ من الاحتلال ومزيداُ من التطهير العرقي للفلسطيني بين البحر والنهر طالما هناك مستوى مقبول من الاستقرار الأمني. تغفل إسرائيل أهم الدروس المستقاة من العملية الأمنية التي تلت اختطاف و مقتل الثلاث مستوطنين، لعل أهمها:
١- أن الشارع الفلسطيني مثل أي شعب يعاني من احتلال كولونيالي لا يمكن تدجينه على المستوى البعيد. ما قد يتذبذب هو مستوى تعبير الجمهور الفلسطيني عن تعاطفه مع أعمال المقاومة. التعاطف مع أعمال المقاومة بغض النظر عن هوية المنفذين ورغم سلسلة إجراءات العقاب الجماعي مثل إغلاق المناطق، منع من السفر وتفتيش البيوت بشكل عشوائي وعنيف هو سمة أساسية للوضع القائم قبل وخلال العملية العسكرية-الأمنية الإسرائيلية.
٢ - إجراءات إسرائيل وتساوق سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني تعمق من الشرخ بين الشعب والسلطة مما يهيئ المناخ لمزيد من التصعيد في المستقبل.
٣- في ظل الأوضاع الإقليمية غير المستقرة تستطيع إسرائيل القيام ببعض العمليات التي تستهدف الفلسطينيين ولكنها لا تستطيع فرض معادلة مثلما حصل في حروبها السباقة مع الفلسطينيين عام ١٩٨٢ او في حروبها المتتابعة على قطاع غزة. الأطراف العربية المختلفة من مصر إلى السعودية لديهم أولويات داخلية وعلى حدودهم أخطار داهمة تجعل من أولوياتهم ليس الضغط على الفلسطينيين لتوقيف أي حرب.
٤- من الناحية العملياتية؛ قد يكون استمرار إسرائيل في إعطاء إشارات حازمة برفضها للتفاوض مع الخاطفين هو ما يعرض حياة مواطنيها إلى الخطر ويجعلهم يدفعون ثمناُ بإمكانها تلافيه. فقد أثبتت هذه السياسة عدم جدواها في كل من عين تيبي و ميونخ مثلما هي في موضوع الثلاثة مستوطنين في هذه المرة.
سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني
الخطاب الإعلامي وما تلاه من مسلكيات للسلطة الفلسطينية تمحور حول أن إسرائيل تستهدف حماس فقط، وأنها لا تستهدف أعضاء الأحزاب والفصائل الأخرى ومناصريها. تعامل الخطاب والسلوك السياسي الأمني للسلطة كأن عناصر حركة حماس معزولون عن محيطهم الاجتماعي وبالتالي ردة فعل أهلهم معزولة عن باقي محيطهم الاجتماعي من جهة. كما صورهذا الخطاب أن استهداف حركة حماس عمل "مشروع"، رداُ على نشاطها في "خرق القانون" من جهة ثانية. كما تجاهل خطاب السلطة الإعلامي أن إسرائيل تستهدف كافة العناصر والقوى التي تناضل ضد الاحتلال مثال ذلك اعتقال مناصري الجبهة الشعبية في مخيم الدهيشة للاجئين الفلسطينيين ونشطاء الجهاد الإسلامي في الضفة الفلسطينية. كما لم تراجع السلطة سياسياتها ولا خطابها الإعلامي على مدار ال١٩ يوماُ بل استمرت في استخدام خطاب إعلامي تبريري مما ساعد إسرائيل على التمادي في إجراءاتها الاحتلالية بغطاء من سياسات سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني.
بالرغم أن سلطة الحكم الذاتي قد عقدت اتفاق مصالحة مع حركة حماس التي تدير عمليا قطاع غزة وتسيطر على السلطة هناك. إلا أن عملية إسرائيل العسكرية -الأمنية التي استهدفت المقاومة وعلى رأسها حماس كانت مناسبة لتصفية الحسابات بين شقي السلطة. أي أن لسان حال سلطة رام الله؛ أن ضرب حماس يعني مزيد من القوة لها. حيث إن قراءات سلطة الحكم الذاتي في رام الله أن حماس بعد انهيار حكم الإخوان المسلمين في مصر وبعد انسحابهم من سورية يعانون أزمة قبول من اللاعبين الأساسيين في السياسة الإقليمية بما فيها إيران. هذه القراءة تغفل أن حماس كحركة برغماتية قادرة على ترميم علاقاتها الإقليمية خاصة وأن بعض القوى الإقليمية مثل إيران و سورية محتاجة إلى تنظيم بقوة حماس في ترسيم العلاقات في المنطقة.
القيادة الفلسطينية تقيم تقديراتها وموقفها السياسي بناء على التكامل مع سياسات القوى الدولية والإقليمية المهيمنة أي الولايات المتحدة وحاجات إسرائيل الإقليمية. متناسية أن حماس جزء من قوى إقليمية متسلحة بقوة تعطيل المشاريع الإقليمية وليس فرضها على منطقة شرق المتوسط. كما أن القيادة الفلسطينية الرسمية لم تعمل على بناء وحشد القدرات المحلية للشعب الفلسطيني وإدارتها لهذه القدرات من أجل إيجاد موازين قوى جديدة تحسن من موقفها التفاوضي، الذي يعتبر إستراتيجيتها الوحيدة المعلنة لإنهاء احتلال إسرائيل للضفة الفلسطينية و قطاع غزة. السلطة عمليا تدير الأزمة السياسية بناء على القبول بالأمر الواقع لشكل العلاقة مع إسرائيل-التعاوني- حيث إن تصرف ومواقف أجهزة ورجالات السلطة خلال العملية العسكرية-الأمنية قدم نموذجاُ على ذلك.
جزء من إدارة الأزمة السياسية والعلاقات مع إسرائيل يعرف بالتنسيق الأمني. التنسيق الأمني لا يعني العلاقة من طرف واحد، أي من السلطة ولصالح إسرائيل، بل هناك فهم ضمني أن إسرائيل ملزمة بإسناد السلطة في حال تعرضت لهجوم أمني من قبل أطراف ممكن أن تستهدفها أو أن تستولي عليها-مثل حماس-. لكن يصبح التنسيق الأمني مقدس للأسباب التالية:
١- محدودية القدرة على تحليل المعلومات واستخلاص النتائج. لدى السلطة قدرة على جمع معلومات بناء على العنصر البشري وهي تفتقد القدرة على جمع المعلومات الخام. حتى لو استطاعت جمع المعلومات -بالجملة- فلا قدرة لديها على تحليلها كونها لا تمتلك تقنيات التنقيب في البيانات data mining. فمثلا لم تبرز قدرات تحليلية واستخلاص نتائج لدى السلطة وحزبها -حركة فتح- و تكنوقراطها على قراءة نتائج انتخابات الجامعات في الضفة الفلسطينية المحتلة بشكل موضوعي. إنما عبرت تصريحات قياداتهم عن ضيق أفق مع استخدام خطاب انتصار تفخيمي ديماغوجي بدل من البحث في أسباب هذه النتائج والبناء عليها. فكيف هو الحال على مستوى إعداد قراءات وتقديرات أمنية!
٢- السيطرة المطلقة لإسرائيل على الاتصالات و خطوط المواصلات تجعل من السيطرة على أهم المراكز الحيوية لجمع المعلومات والتحكم في حركة الجماعات والأفراد. السلطة الفلسطينية لا تفتقد السيطرة على المعابر الدولية فقط وإنما على نقاط الوصل بين التجمعات الفلسطينية المختلفة في الضفة. كما أن المناطق "أ" حيث يمكنها نشر قواتها الشرطية لا تتجاوز ٢٠٪ مما يقلص من قدرتها على المتابعة والتقصي بشكل مستقل.
٣- المحدودية في القدرات النوعية والكمية لأجهزة أمن السلطة. حيث ان اعادة هيكلة الأجهزة الأمنية لسلطة الحكم الذاتي الفلسطيني حددت عدد أفراد وطواقم الأجهزة الأمنية إلى ما دون العشرة آلاف. الحديث هنا عن الكتائب التي أشرف الجنرال الأمريكي دايتون و خلفاؤه على تدريبها حيث تعتبر العمود الفقري لأجهزة أمن السلطة الآن. كما أن هذه القوات محدودة القدرات من حيث التسليح والمهام؛ فهي قادرة على التعامل مع مجموعات منفردة و تجمعات غاضبة محدودة العدد والاتساع الجغرافي. كما أن الدعم اللوجستي العملياتي والانتشار مرتبط بيد إسرائيل كما تشير الملاحق الأمنية لاتفاق إنشاء السلطة.
هذه الاعتبارات قد توضح دوافع بعض التصريحات المتسقة مع سياسات الاحتلال وأولوياته الأمنية من قبل بعض قيادات السلطة وصولاُ إلى رأس هرم النظام السياسي محمود عباس في اجتماع وزراء خارجية منظمة التعاون الإسلامي في جدة-السعودية. هذه التصريحات وصلت درجة عدم الاكتراث في ردة فعل الشارع الفلسطيني الذي عمدت شرائح واسعة منه إلى السخرية وحتى التشكيك في نوايا مسؤولي السلطة لدرجة التخوين. تجرؤ الإنسان العادي إلى درجة تخوين الصف الأول في قيادة سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني مرحلة متقدمة في نشوء شكل جديد من تموضع العلاقة بين السلطة و شرائح واسعة من الجماهير الفلسطينية. هذا التموضع يشبه العلاقة بين المختار ورجالات إسرائيل المعينين من جهة والناس العاديين من الجهة المقابلة خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام ١٩٨٧. هل أرادت إسرائيل الوصول بهم إلى هذه المرحلة ؟
لعل أهم أسباب إحجام قيادة سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني عن تغير مسارب سياستها، والذهاب بعيداُ في توطيد علاقات أجهزة السلطة مع أجهزة إسرائيل هو الحفاظ على المكتسبات السياسية والاقتصادية للنخب الفلسطينية السياسية-الرأسمالية المتنفذة. لقد نشأ وتطور العديد من العلاقات المصلحية بين الطغم السياسية والاقتصادية الفلسطينية ودولة الاحتلال إسرائيل بناء على تفاهمات رسمية -اتفاقية باريس الاقتصادية- وغير رسمية عبر التسهيلات الممنوحة لهذه الطغم. إن التصرف بعكس توقعات إسرائيل و إملاءاتها قد يضع مصالح هذه الطغم في خطر هي في غنى عنه! لذلك فان القيادة الفلسطينية ممثلة برأس السلطة الممثل المباشر لمصالح هذه الطغم قد فضلت اختيار مصالحها الضيقة على مصالح عموم الشعب. التسعة عشر يوم من العملية العسكرية- الأمنية الإسرائيلية كانت محطة للتعبير عن ذلك.
كما أن مبررات استمرار السلطة في سياستها التعاونية مع إسرائيل، ركونها إلى مصادر قوة كامنة، في ظل عدم وجود قوة بديلة منظمة لها شبكات مؤسسات مجتمعية. مصادر القوة الكامنة هذه:
- إن السلطة جهاز التشغيل الأساسي للقوى العاملة الفلسطينية في الضفة الفلسطينية وإلى حد ما في قطاع غزة. إي يرتبط دخل عشرات آلاف الأسر الفلسطينية في عملهم في أجهزة السلطة المدنية من تعليم وصحة ومرافق خدماتية. إن استمرار وجود موظفي السلطة على رأس عملهم مرهون بعدم قيامهم بأعمال -خارج وظائفهم- لا توافق سياسات السلطة أو تعترض معها سياسيا. هذا ما يفسر جزئيا الإحجام عن التعبير العلني من بعض الفئات، عن معارضة سياسات السلطة حتى في ظل العملية العسكرية-الأمنية الإسرائيلية.
- سلطة الحكم الإداري الذاتي الفلسطيني هي الجسم الإداري الشرعي المعترف به محليا ودوليا -على علاته- الذي ينظم الحياة العامة ويحدد نوع ومجال الفرص المتاحة بما فيها العمل في سوق العمل الإسرائيلي الذي يشمل المستوطنات. السلطة هي التي تصدر شتى أنواع تراخيص العمل والأعمال، هي التي تصدر وثائق إثبات الشخصية وجوازات السفر. كما أنها بالتفاهم مع سلطة الإدارة المدنية للجيش الإسرائيلي يتم إصدار تصاريح العمل. خلال العملية العسكرية- الأمنية استمرت أجهزة السلطة المدنية في تقديم خدماتها بما يتناسب والأجواء الأمنية. لكن أهمية السلطة كجهاز إداري ـ خلال العملية العسكرية-الامنية- هو استمرار عملها كقناة الوصل بين الشارع الفلسطيني وأجهزة إسرائيل، تحديدا في منطقة الخليل لتنظيم مرورالمواطنين الذين يحملون بطاقة موظف سلطة، إضافة إلى تنظيم مرورهم عبر المعابر الدولية بناء على المنطقة والشرائح العمرية.
أهم التداعيات الفلسطينية الداخلية
١- تعميق الشرخ بين قيادة سلطة الحكم الإداري الذاتي الفلسطيني والشعب الفلسطيني. مع أن السلطة تمثل مركز للجاه والنفوذ، إلا أن سلوك السلطة الذي بلغ حد التعاون العلني والمفضوح قد أبهت بريق السلطة عند شرائح عريضة في الشارع الفلسطيني وأمام المواطن العادي. فيما نفوذ السلطة يستمد من قدرتها الحصرية على ممارسة العنف وتنفيذ "القانون" قد اضمحلت مع انتشار الجيش الإسرائيلي في منطقة الخليل التي تصل نسبة سكانها الى أكثر من ربع الضفة الفلسطينية. أما ما تبقى من بريق ونفوذ فهو مع وقف التنفيذ في حال دخلت أي قوة إسرائيلية لأي مدينة فلسطينية تخضع إداريا لحكم السلطة الذي ينفذ خلاله الإجراء (صفر صفر). الإجراء صفر صفر يحرم رجال أمن السلطة من مغادرة مراكزهم في حال دخول أي قوة إسرائيلية. لعل مثال ما حصل في مدينة رام الله من دخول لقوات الاحتلال الإسرائيلية مدينة رام الله بشكل استعراضي وتوقفهم أمام مراكز الشرطة هناك مما ولد ردة فعل في الشارع الفلسطيني على تصرف عناصر شرطة المدينة حيث هاجمت مجموعات من الشبان المركز بالحجارة ووصفت شرائح عريضة من الناس سلوك الشرطة بالخنوع.
٢- ترسيم وإرساء إطار للعلاقة بين شقي السلطة في الضفة الفلسطينية وقطاع غزة قائم على التقاسم الوظيفي والجغرافي، وقائم على أساس تحمل مسؤولية كل طرف أعباء منطقته و"الحرية" في طرق إدارتها وتنفيذ سياستها. هذا التقاسم الوظيفي ترسخ برغم ما تم من مصالحة بين حركتي فتح وحماس، أي شقي السلطة. لعل ذلك كان واضحا من خلال استمرار عدم قدرة الأطراف على تصدير موقف موحد- يحمل توافقات ضمن الحد الأدنى من القواسم المشتركة- تجاه إجراءات و سياسات إسرائيل خلال عمليتها العسكرية- الأمنية. تبرر السلطة في الضفة الفلسطينية استمرارها في سياستها التنسيقية مع إسرائيل إلى ضمان الاستقرار النسبي لموازنتها وقدرتها على دفع الرواتب شبه المنتظم. كما أن استمرارها في هذه السياسة يمتن من علاقاتها مع الداعمين الدوليين الذين يربطون استمرار دعمهم بقدرة السلطة على فرض الأمن ومنع استهداف إسرائيل. فيما هناك تفسير ضمني وأحيانا معلن مفاده أن حصار قطاع غزة والخلل في ميزانية السلطة هناك وعدم قدرتها على تقديم الخدمات يرتبط بعدم قدرة حماس هناك على إدارة العملية السياسية مع الإسرائيليين بطريقة تجعلها مقبولة على مجتمع المانحين الذي يضعها في إطار دعم وممارسة "الارهاب".
٣- تبلور إدراك عام في الشارع الفلسطيني وبين بعض نخبه أن حركة حماس لها حاضنة اجتماعية واسعة في النسيج الاجتماعي الفلسطيني وهي ليست تنظيماً نخبويّاً محدود الامتداد يمكن شل فعاليته بمجرد اعتقال عناصره. حماس حركة جماهيرية وريث تراث حركة فتح في السبعينات وثمانينيات القرن المنصرم، فهي تمثل ثقافة المقاومة في المخيال الشعبي وبالتالي هي قطب استقطاب للنشطاء بغض النظر عن إيديولوجيتهم. نسبة العناصر المنتظمة في صفوف حماس-بالرغم من عدم وجود إحصائيات دقيقة- إلى الغلاف الاجتماعي الذي تعيش في وسطه مجموعات النشطاء قليلة. يمكن استنتاج ذلك من عدد الأصوات التي حصلت عليها الكتلة الطلابية -الحركة الإسلامية- التي تمثل حماس في الجامعات التي ناهزت خمسة عشر ألفا بالرغم من انقطاع دام أكثر من سبع سنوات عن إقامة فعاليات تعبوية علنية للحركة في الضفة الفلسطينية. هذه العلاقة العكسية بين عدد المنتظمين إلى جمهورهم مصدر قوة للتنظيم لعدة أسباب:
أ- وجود جمهور عريض يحتضن النشطاء مما ينشئ حالة من التكافل بينهم. الوسط الاجتماعي يوفر الدعم المادي المعاشي لبقاء النشطاء وعائلاتهم فيما يقدم النشطاء أنفسهم كمدافع عن هيبة وكرامة هذا الجمهور.
ب- إمكانية نجنيد وتنظيم أعداد متزايده من النشطاء عند الضرورة من هذا النسيج الاجتماعي. وبالتالي فإن اعتقال اعضاء التنظيم وتعرضه للضربات الأمنية يشكل دعاية ايجابية للتنظيم كاعتراف من الاحتلال بدوره مما يمكن من نجا من نشطاء على إعادة البناء والتجنيد.
كان مقدار التضامن والإسناد لعائلات المعتقلين خلال العملية الإسرائيلية واضح. لكن الأهم أنه رغم إجراءات الاحتلال لم تبرز أصوات تتذمر من أعمال المقاومة بل على العكس تعالت أصوات تشيد بالعمل المقاوم. أي أننا أمام بيئة مهيأة لتحمل أعباء العمل المقاوم. إن البديل المتكون في الوعي الشعبي في ظل غياب قيادة منظمة تعمل بشكل ممنهج و شبه علني في توجه هذا الوعي هو "عكس التنسيق”. وبالتالي فان الخلل في ميزان القوى على الأرض في المرحلة المقبلة قد يفضي إلى:
- فلتان أمني قد يدفع فيه بعض رجالات السلطة فيه ثمن تجبرهم واحتكارهم للسلطة والمصادر.
- سيطرة قوى لها برنامج مقاوم مثلما كان الحال في الانتفاضة الأولى وهذا احتمال ضعيف.
لكن عمليا الشارع الفلسطيني قد يكون أقرب إلى مزيج من الاثنين
قوة إسرائيل محدودة حيث لم تستطع إعادة المختطفين أحياءً وأقصى قدرتها على الرد هو مزيد من القتل للفلسطيني مما يشكل مصدر شحن للشعب الفلسطيني ودافع لاستمرار المقاومة. كما أنه ليس في وارد الحال أن تنزل إسرائيل من الدبابة في المدى المنظور إذا كان بالأساس بمقدورها النزول منها. كما أنه صحيح أن إسرائيل تحاصر غزة وتسيطر على الضفة ولكن ذلك يستهلك جزءاً من قوتها ويسرع من تآكل قدرة مجتمعها على إعطاء مبررات أخلاقية لمسلكياته تجاه الشعب الفلسطيني . لا يبقى أمام إسرائيل إلا الإبداعية في تحويل أدوات السيطرة والقوة إلى مشاريع شركات أمنية مدره للربح وتوفر فرص عمل لعشرات آلاف العمال اليهود الإسرائيليين. إلا أن السؤال هو: إلى أي مدى قادرة إسرائيل على البقاء كقوة احتلال على أنقاض الشعب الفلسطيني؟ فيما يوجد لدى الشعب الفلسطيني اعتقاد مترسخ بحقوقهم التاريخية، وهم يعتقدون أنه رغم تصريحات زعماء إسرائيل ذي النبرة العالية، إلا أن إسرائيل مشروع محدود العمر والفعالية وأن على سكانها تقرير مصيرهم كجزء من مصير الشعب العربي في المنطقة على أساس الاندماج والتكامل.
الطرف الفلسطيني لديه عناصر قوة موضوعية أهمها أن لا شرعية لأي مشروع في المنطقة دون رفع راية تحرير فلسطين سواء كان مشروعاً قومياً، قُطريّاً، أو دينيّاً. كما أن قوة إسرائيل محدودة حيث لم تستطع إعادة المختطفين أحياءً وأقصى قدرتها على الرد هو مزيد من القتل للفلسطيني مما يشكل مصدر شحن للشعب الفلسطيني ودافع لاستمرار المقاومة.
[1] كتبت هذه المقالة قبل اندلاع انتفاضة القدس اثر جريمة قتل الشهيد محمد ابو خضير.